العقل والوعي- مواجهة التآمر بالمعرفة والتفكير النقدي

المؤلف: أسامة يماني10.27.2025
العقل والوعي- مواجهة التآمر بالمعرفة والتفكير النقدي

لماذا يترسخ هذا المنظور في كتابات بعض الأدباء الذين يطلقون على أنفسهم صفة المفكرين؟ يعود هذا التصور، كما أوضح الدكتور نصر حامد أبو زيد، رحمه الله، إلى قصور في "إنتاج معرفة علمية موضوعية بالآخر تكشف لنا جوهر الحقيقة". فكل أمة وثقافة تمتلك تصوراتها الخاصة عن الآخر، ولكن لأننا لم نطور فهمًا علميًا لأنفسنا وتاريخنا، ولم ننتج معرفة علمية متعمقة بتاريخ أوروبا، فإن التفسير التآمري يظل مهيمناً، حيث نصور الآخر على مر العصور متآمراً علينا، ونحن دائمًا ضحايا للمؤامرات. وأؤكد أن الوعي بالذات يسير جنبًا إلى جنب مع الوعي بالآخر، ولكن لأن تعاملنا مع الآخر غالبًا ما يكون سياسيًا، فإن معرفتنا تخضع لاعتبارات ومصالح سياسية ضيقة. وفي سياق حديثه عن إشكالية غياب سلطة العقل الرشيد، يوضح أبو زيد أن"العقلانية المنشودة هنا هي المنهجية العقلية والعلمية التي صاغها العقل الحديث بإنجازاته الهائلة وتطلعاته نحو التحرر. فالعقل يواجه تحديين رئيسيين: الطبيعة والمجتمع، ومهمته الأساسية هي استكشاف قوانين الطبيعة، وقوانين المجتمع بهدف فهمها وتوظيفها لخدمة الإنسانية. وأي تقييد لحرية العقل يعيق عملية الاكتشاف ويمنع طرح أي جديد للمعرفة المتعلقة بقوانين الطبيعة والمجتمع. ومن المؤسف حقًا أن العقل العربي مثقل ومقيد بآلاف القيود الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. والحل الأمثل، في رأيي المتواضع، يكمن في تحرير العقل وإطلاقه ليتحرك بحرية تامة كعقل مفكر ينتج المعرفة العلمية! وتأكيد سلطة العقل على الأسس التي يتعامل بها الناس مع الواقع ليس مجرد همًا للمفكر، بل هو همٌّ سياسي واقتصادي واجتماعي وديني ومعرفي بالدرجة الأولى. ولن يتحقق هذا التأكيد إلا من خلال إحداث ثورة علمية وفكرية يكون هدفها الأساسي توعية المواطن بكل أشكال المعرفة المتاحة والضرورية. وإذا لم نتحرك في هذا الاتجاه، فإننا مهددون بمصير مماثل للهنود الحمر الذين استقبلوا العلم كغزو، وتعاملوا معه بالأساطير والخرافات، مما أدى في نهاية المطاف إلى انقراضهم". المعرفة العلمية بالآخر تكشف لنا كيف يمتلك الغرب معرفة علمية عميقة بنا تمكنه من فهم أفعالنا، وردود أفعالنا، وسلوكياتنا، ومعتقداتنا، وثقافتنا، ورغباتنا، وآمالنا، مما يمكنه من صياغة الخطط والاستراتيجيات للسيطرة على اقتصادنا ومقدرات منطقتنا، والعمل على تفتيتها ونهب خيراتها وثرواتها.

منطقتنا لا تواجه مجرد مؤامرة عابرة، بل تواجه مخططات محكمة ومدروسة بدقة، مستندة إلى معرفة عميقة ووعي كامل بالآخر. وما تعانيه منطقتنا يعود بشكل أساسي إلى نقص المعرفة، وغياب سلطة العقل المستنير، وهيمنة سلطة الأسطورة والخرافة. فالوعي العميق بالذات هو الطريق الأمثل إلى الوعي بالآخر. نادرًا ما نجد من يمتلكون فهمًا حقيقيًا للتاريخ وكيف تشكلت منظومة الفكر العربي، وسيطرة الرواية التي طغت على العقل حتى أصبح المجتمع يعيش على روايات مشوهة بعيدة عن مضمونها ونسقها التاريخي، ومفهوم النص الخاص بها، ومعرفة من رووها، وصحتها، ومرجعيتها، وغيرها من النقاط التي يجب التوقف عندها قبل الأخذ بها واعتمادها.

تعتمد نظرية المؤامرة على التبسيط المخل للأحداث المعقدة، واختزال الأمور المتشابكة، والافتراض بأن الأحداث الكبرى يمكن تفسيرها من خلال مؤامرة سرية واحدة. بينما في الواقع، قد تكون الأحداث ناتجة عن عوامل متعددة ومتداخلة ومعقدة. كما تؤدي نظرية المؤامرة إلى فقدان الثقة في المؤسسات الرسمية والإعلام والمؤسسات العلمية، مما قد يتسبب في زعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي. بالإضافة إلى ذلك، تؤدي إلى رفض الأدلة العلمية أو الحقائق المثبتة، مما يعيق تقدم الفهم العلمي والصحي والديني.

إنّ ما نشهده من انقسام متزايد داخل المجتمع يساهم في تعزيزه تبني نظرية المؤامرة، ولا سيما إذا كانت تستخدم كأداة لاستهداف جماعات معينة أو للتأكيد على هويات ضيقة ومتعصبة. فنظريات المؤامرة تعمل على تشتيت الانتباه عن القضايا الجوهرية والمشكلات الحقيقية التي تتطلب معالجة فورية وعقلانية، وتدفع الأفراد أو المجتمعات إلى تبني موقف الضحية، والتنصل من المسؤولية عن أفعالهم، أو عدم بذل الجهد اللازم للتغيير الإيجابي والتحسين المستمر. تفسير الأحداث بنظرية المؤامرة يجعل من الحِوَار العقلاني البناء والنقاش المثمر أمرًا صعبًا للغاية، نظرًا لأن المؤمنين بهذه النظريات غالبًا ما يرفضون أي دليل أو حجة تتعارض مع معتقداتهم الراسخة.

بناءً على ما تقدم، يتضح جليًا أن السعي الدؤوب إلى بناء وعي نقدي قادر على التمييز بين الحقائق والخرافات، والعمل الجاد على تعزيز الثقة في المؤسسات، وبناء مجتمع مزدهر قائم على الحِوَار البنّاء والمعرفة المتينة، هو ضرورة مُلحة وليست مجرد ترف أو أمنية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة